فصل: تفسير الآيات (11- 12):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (11- 12):

{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ (12)}
يقوله الحق جلّ جلاله: {وقال الذين كفروا للذين آمنوا} أي: لأجلهم، وهو كلام كفار مكة، قالوا: إنَّ عامة مَن يتبع محمد السُّقاط، يعنون الفقراء، كعمار وصهيب وبلال وابن مسعود رضي الله عنهم، قالوا: {لو كان} ما جاء به محمد من القرآن والدين {خيراً ما سبقونا إِليه} فإن معالي الأمور لا تنالها أيدي الأرذال، فإنَّ عامتهم فقراء وموالٍ ورُعاة، قالوه زعماً منهم أن الرئاسة الدينية مما تُنال بأسباب دنيوية، كما قالوا: {لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءَانُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 31]، وضلّ عنهم أنها منوطة بكمالات نفسانية، وملكات روحانية، مبناها: الإعارض عن زخارف الدنيا، والإقبال على الله بالكلية، وأنّ مَن فاز بها حازها بحذافيرها، ومَن حرمها فما له عند الله من خلاق. والحاصل: أن هذه المقالة سببها الرضا عن النفس، وهو صل كل معصية وغفلة. ثم قال تعالى: {وإِذ لم يهتدوا به} العامل في الظرف محذوف؛ لدلالة الكلام عليه، أي: وإذ لم يهتدوا به ظهر عنادهم، وقالوا ما قالوا: {فسيقولون} غير مكتفين بنفي خيريته: {هذا إِفك قديم} أي: كذب متقادم، كقوله: {أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} [الأنعام: 25].
وقال القشيري: إنه تكذيب للرسل فيما بُيّن لهم، فما أُنزل عليهم من بعثة محمد رسولاً، يعني: فيكون كقوله تعالى: {إِنَّا بِكُلِّ كَافِرُونَ} [القصص: 48، الزخرف: 30]، وقيل لابن عباس: أين نجد في القرآن مَن كره شيئاً عاداه، فقرأ هذه الآية: {وإذ لم يهتدوا..} إلخ.
{ومِن قبله} أي: مِن قبل القرآن {كتابُ موسى} أي: التوراة، فكتاب: مبتدأ، و{من قبله}: خبر، والاستقرار هو العامل في قوله: {إِماماً ورحمةً} على أنهما حالان من الكتاب، أي: قدوة يُؤْتمُ به في دين الله وشرائعه، ورحمة من الله تعالى لمَن آمن به. {وهذا} القرآن، الذي يقولون في حقه ما يقولون، هو {كتاب} عظيم الشأن {مُصدِّق} لكتاب موسى، الذي هو أماماً ورحمة، أو: لِما بين يديه من جميع الكتب الإلهية. قال ابن عرفة: وجه مناسبتها لما قبلها: أنه لما تضمن قوله: {فسيقولون هذا إفك قديم} تقبيحهم إياه بأنه إما كذب في نفسه، أو شبيه بما قبله من الأكاذيب والافتراءات، عقبه ببيان أنه إما صدق في نفسه، أو شبيه بما قبله من الكتب الصادقة. اهـ.
حال كون الكتاب {لساناً عربياً ليُنذر الذين ظلموا} متعلق بمُصَدِّق، أو بأنزل، محذوفاً، وفيه ضمير الكتاب، أو: الله تعالى، أو: الرسول صلى الله عليه وسلم، ويؤيده: قراءة الخطاب، {وبُشرى للمحسنين} في حيز النصب، عطف على محل {ليُنذر}؛ لأنه مفعول له، أي: للإنذار والبشرى، أو: وهو بشرى للمحسنين، للمؤمنين المطيعين.
الإشارة: قال في الحِكَم: (أصل كل معصية وغفلة وشهوة: الرضا عن النفس، وأصل كل طاعة ويقظة وعفة: عدم الرضا منك عنها، ولأن تصحب جاهلاً لا يرضى عن نفسه، خير من أن تصحب عالماً يرضى عن نفسه، فأيّ علِم لعالم يرضى عن نفسه؟ وأيّ جهل لجاهل لا يرضى عن نفسه؟)، وعلامة الرضا عن النفس: تغطية مساوئها، وإظهار محاسنها، كما قال الشاعر:
وَعَيْنُ الرِضَا عَن كُلِّ عَيْبٍ كَلِيلَةٌ ** ولَكِن عَين السخطِ تُبدِي المساوي

وإذا نقصها له أحدٌ انتقم منه وغضب، وإذا مدحها له فَرِحَ واستبشر، ويرى أنه أهل لكل خيرٍ، وأولى من غيره، فيقول إذا رأى مَن حاز خيراً أو رئاسة، كما قال الكفار: لو كان خيراً ما سبقونا إليه، وعلامة عدم الرضا عنها: إظهار مساوئها، واتهامها في كل حال.
وقال أبو حفص الحداد: مَن لم يتهم نفسه على دوام الأوقات، ولم يخالفها في جميع الأحوال، ولم يجرها إلى مكروهها في سائر أيامه، كان مغروراً، ومَن نظر إلى نفسه باستحسان شيء منها فقد أهلكها، وكيف يصح لعاقل الرضا عن نفسه؟! والكريم ابن الكريم ابن الكريم يقول: {وَمَآ أُبَرِّئُ نَفْسِى} [يوسف: 35]. اهـ.
فإذا لم يرضَ عن نفسه، وهذّبها، استقامت أحواله، وكان من المحسنين.

.تفسير الآيات (13- 14):

{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (14)}
يقول الحق جلّ جلاله: {إِن الذين قالوا ربُّنا اللّهُ ثم استقاموا} أي: جمعوا بين التوحيد، الذي هو خاصة العلم، والاستقامة في الظاهر، التي هي منتهى العمل، {فلا خوفٌ عليهم} من لحوق مكروه، {ولا هم يحزنون} على فوات مرغوب، و{ثم} للدلالة على تراخي رتبة العمل، وتوقف الاعتداد به على التوحيد. ودخلت الفاء لتضمن الموصول معنى الشرط، والتعبير بالمضارع للدلالة على دوام نفي الحزن عنهم، {أولئك} الموصوف بما ذكر من الاسمين الجليلين، {أصحابُ الجنة خالدينَ فيها} حال من أصحاب الجنة، والعامل: معنى الإشارة، {جزاء بما كانوا يعملون} من الأعمال الصالحة، و{جزاء} مصدر لمحذوف، أي: جوّزوا جزاء، أو بمعنى ما تقدم، فإن قوله: {أولئك أصحاب الجنة} في معنى: جزيناهم.
الإشارة: مضى تفسير الاستقامة، وأنَّ مَن درج على الإيمان والاستقامة حظي بكل كرامة، ووصل إلى جزيل السلامة، وقيل: السين في الاستقامة سين الطلب، وأنَّ المستقيم يتوسل إلى الله تعالى في أن يقيمه على الحق، ويثبته على الصدق. اهـ.
قال الورتجبي: ما قال القوم هذا القول- أي: {ربنا الله}- حتى شاهدوه بقلوبهم، وعقولهم، وأرواحهم، وأسرارهم، مشاهدة الحق سبحانه، فإذا رأوه يقولون: هذا الهلال، وصاحوا، وضحكوا، فهذا القول منهم بعد كشف مشاهدة الحق لهم، فلما رأوه أبحوه وعرفوه، وشربوا من بحار وصالة، حتى تمكنوا، فاستقاموا بقوتها في موازاة رؤية أنوار الأزل والآباد، واستقاموا في مراد الله منهم، وأداء حقوق عبوديته، فلا يبقى عليهم خوف الحجاب، ولا حزن العتاب، قال الله تعالى: {فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون}. اهـ.

.تفسير الآيات (15- 16):

{وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16)}
يقول الحق جلّ جلاله: {ووصينا الإِنسانَ} بأن يُحسن {بوالديه حُسناً} وقرأ أهل الكوفة {إحساناً} وهما مصدران، وقرئ: {حَسَناً} بفتح الحاء والسين، أي: يفعل بهما فعلاً حَسَناً، أو: وصينا إيصاءً حَسَاناً، {حملته أُمه كُرْهاً ووضعته كُرهاً} أي: حملته بكُرْهٍ ومشقة، ووضعته كذلك، وذكره للحث على الإحسان والبرور بها، فإن الإحسان إليها أوجب، وأحق من الأب، ونصبهما على الحال، أي: حملته كارهة، أو: ذات كُره، وفيه لغتان؛ الفتح والضم، وقيل: بالفتح مصدر، وبالضم اسمه. {وحَمْلُه وفِصَالُه} أي: ومدةُ حمله وفصاله، وهو الفطام. وقرأ يعقوبُ: {وفصله} وهما لغتان كالفَطْم والفطام، {ثلاثون شهراً} لأن في هذه المدة عُظَّم مشقة التربية، وفيه دليل على أن أقل مدة ستةُ أشهر؛ لأنه إذ حُط منه لفطام حولان، لقوله تعالى: {حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233] يبقى للحمل ستة، قيل: ولعل تعيين أقل مدة الحمل، وأكثر مدة الرضاع لانضباطهما، وارتباطِ النسب والرضاع بهما.
{حتى إِذا بلغ أشُدَّه} أي: اكتهل، واستحكم عقله وقوته، وانتهت قامته وشبابه، وهي ما بين ثماني عشرة سنة إلى أربعين، وقال زيد بن أسلم: الحلم، وقال قتادة: ستة وثلاثون سنة، وهو الراجح، وقال الحسن: قيام الحجة عليه. {وبلغ أربعين سنة} وهو نهاية الأشدّ، وتمام العقل، وكمال الاستواء.
قيل: لم يُبعث نبيّ إلا بعد الأربعين، قال ابن عطية: وإنما ذكر تعالى الأربعين، لأنها حدّ الإنسان في فلاحه ونجاته، وفي الحديث: «إن الشيطان يمدّ يده على وجه مَن زاد على الأربعين ولم يتب، فيقول: بأبي وَجْهٌ لايُفلح». اهـ. ومن حديث أنس قال صلى الله عليه وسلم: «مَن بلغ أربعين سنة أمّنه الله من البلايا لثالث: الجنون والجذام والبرص، فإذا بلغ الخمسين خفّف الله عنه الحساب، فإذا بلغ ستين سنة رزقه الله الإنابة كما يُحب، فإذا بلغسبعين سنة غفر الله ما تقدّم من ذنبه وما تأخر، وشفع في أهل بيته، وناداه منادٍ من السماء: هذا أسير الله في أرضه» وهذا في العبد المقبل على الله. والله تعالى أعلم. وقُرئ: {حتى إذا استوى وبلغ أشُدَّه}.
{قال ربِّ أوزعني} أي: ألهمني {أن أشكر نعمتك التي أنعمتَ عليَّ} من الهداية والتوحيد، والاستقامة على الدين، {وعلى والديَّ} كذلك، وجمع بين شكر النعمة عليه وعلى والديه؛ لأن النعمة عليهما نعمةٌ عليه، {وأنْ أعمل صالحاً ترضاه} التنكير للتفخيم والتكثير، قيل: هو الصلوات الخمس، والعموم أحسن، {وأَصْلِحْ لي في ذُريتي} أي: واجعل الصلاة سارياً في ذريتي راسخاً فيهم، أو: اجعل ذريتي مَوقعاً للصلاح دائماً فيهم، {إِني تُبتُ إِليك} من كل ذنب، {وإِني من المسلمين} الذين أخلصوا لك أنفسهم، وانقادوا إليك بكليتهم.
قال عليّ رضي الله عنه: نزلت في أبي بكر رضي الله عنه، ولم تجتمع لأحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من المهاجرين مَن أسلم أبواه غيره، وأوصاه الله بهما. اهـ. فاجتمع لأبي بكر إسلام أبي قحافة وأمه أم الخير وأولاده: عبد الرحمن، وابنه عتيق، فاستجاب الله دعاءه في نفسه وفي ذريته، فإنه آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثمان وثلاثين سنة، ودعا لهم وهو ابن أربعين سنة. قال ابن عباس: أعتق أبو بكر تسعةً من المؤمنين، منهم: بلال، وعامر بن فهيرة، ولم يُرد شيئاً من الخير إلا أعانه الله عليه. اهـ.
قال ابن عطية: معنى الآية: هكذا ينبغي للإنسان أن يكون، فهي وصية الله تعالى للإنسان في كل الشرائع، وقول مَن قال: إنها في أبي بكر وأبويه ضعيف، لأن هذه نزلت في مكة بلا خلاف، وأبو قُحافة أسلم يوم الفتح. اهـ. قلت: كثيراً ما يقع في التنزيل تنزيل المستقبل منزلة الماضي، فيُخبر عنه كأنه واقع، ومنه: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِى إِسْرَآءِيلَ} [الأحقاف: 10] و{وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [فصلت: 6، 7] وهذه الآية في إسلام إبي قحافة. والله تعالى أعلم.
{أولئك الذين يتقبل عنهم أحسن ما عملوا} من الطاعات، فإن المباح لا يُثاب عليه إلا بنية صالحة، فإن يَنقلِب حينئذ طاعة، وضمّن {يتقبل} معنى يتجاوز، فعدّاه بعَن؛ إذ لا عمَلَ يستوجبُ القبول، لولا عفوُ الله وتجاوزه عن عامله، إذ لا يخلو عمل من خلل أو نقص، فإذا تجاوز الحق عن عبده قَبِلَه منه على نقصه، فلولا حلمه تعالى ورأفته ما كان عملٌ أهلاً للقبول. {ويتجاوز عن سيائتهم} فيغفر لهم، {في} جملة {أصحاب الجنة} كقولك: أكرمني الأمير في نار من أصحابه، أي: أكرمني في جملة مَن أكرمهم، ونظمني في سِلكِهمْ ومحله: نصب على الحال، أي: كائنين في أصحاب الجنة، ومعدودين فيهم، {وَعْدَ الصِّدق} أي: وعدهم وعداً صدقاً، فهو مصدر مؤكد، لأن قوله: {يتقبل ويتجاوز} وعد من الله تعالى لهم بالتقبُّل والتجاوز، {الذي كانوا يُوعدون} في الدنيا على ألسنة الرسل عليهم السلام.
الإشارة: لمَّا كانت تربية الأبوين مظهراً لنعمة الإمداد بعد ظهور نعمة الإيجاد وصّى الله تعالى بالإحسان إليهما، وفي الحقيقة: ما ثمَّ إلا تربيةُ الحق، ظهرت في تجلِّي الوالدين، قذف الرأفة في قلوبهما، حتى قاما بتربية الولد، فالإحسان إليها إحسان إلى الله تعالى في الحقيقة. وقال الورتجبي: وصى الإنسانَ بالإحسان إلى أبويه، لأنهما أسباب وجوده، ومصادر أفعال الحق بَدَا منهما بدائعُ قدرته، وأنوارُ ربوبيته، فحُرمتهما حرمة الأصل، ومَن صبرَ في طاعتهما رزقه الله حُسنَ المعاشرة على بساط حُرمته وقُربته.
قال بعضهم: أوصى اللّهُ العوام ببر الوالدين لِما لهما عليه من نعمة التربية والحِفظ، فمَن حفظ وصية الله في الأبوين، وفّقه بركةُ ذلك، لحِفظِ حرمات الله، وكذلك رعاية الأوامر والمحافظةُ عليها تُوصل بركتُها بصاحبها إلى محل الرضا والأنس. اهـ.
قال القشيري: وشر خصال الولد: التبرُّم بطول حياتهما، والتأذي بما يجب من حقهما، وعن قريب يموت الأصل، وقد يبقى النسل، ولابد ان يتبعَ الأصل. اهـ. أي: فيعق إن عقّ أصله، ويبر إن بر، وفي الحديث: «برُّوا آباءَكُمء تبركمْ أبناؤكم» ثم قال: ولقد قالوا في هذا المعنى وأنشدوا:
رُوَيْدَكَ إنَّ الدَّهْرَ فيه كفاية ** لِتَفْرِيق ذات البَيْنِ فارتقِبِ الدَّهرا

. اهـ.
قلت: وقد تقدم أن حُرمة الشيخ أوكد من حرمة الوالدين، فيُقدم أمره على أمرهما، كما تقدّم عن الجنيد في سورة النساء. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآيات (17- 19):

{وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آَمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (18) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (19)}
قلت: {والذي قال} مبتدأ، وخبره: {أولئك الذين حقَّ عليهم القول}، والمراد ب {الذي قال} الجنس، ولذلك جمع الخبر.
يقول الحق جلّ جلاله: {والذي قال لوالديه} عند دعوتهما إلى الإيمان: {أُفًّ لكما} وهو صوت يصدر عن المرء عند تضجُّره، وقَنَطِه، واللام لبيان المؤفّف، كما في {هيتَ لك} وفيه أربعون لغة، مبسوطة في محلها، أي: هذا التأفيف لكما خاصة، أو لأجلكما دون غيركما.
وعن الحسن: نزلت في الكافر العاقّ لوالديه، المكذِّب بالبعث، وقيل: نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنه، قبل إسلامه. وأنكرت عائشة رضي الله عنها ذلك، وقالت: والله ما نزل في آل أبي بكر شيئاً من القرآن، سوى براءتي، ويُبطل ذلك قطعاً: قوله تعالى: {أولئك الذين حق عليهم القول} لأنَّ عبد الرحمن بن أبي بكر أسلم، وكان من فضلاء الصحابة، وحضر فتوحَ الشام، وكان له هناك غناء عظيم، وكان يسرد الصيامَ. قال السدي: ما رأيت أعبد منه. اهـ. وقال ابن عباس: نزلت في ابنٍ لأبي بكر، ولم يسمه، ويرده ما تقدّم عن عائشة، ويدل على العموم: قوله تعالى: {أولئك الذين حقّ عليهم القول}، ولو أراد واحداً لقال: حق عليه القول.
ثم قال لهما: {أَتعدانِني أن أُخْرَج} أي: أُبعث وأُخرج من الأرض، {وقد خَلَت القرونُ من قبلي} ولم يُبعث أحد منهم، {وهما يستغيثانِ اللّهَ} يسألانه أن يُغيثه ويُوقفه للإيمان، أو يقولان: الغِياث بالله منك، ومن قولك، وهو استعظام لقوله، ويقولان له: {وَيْلكَ} دعاء عليه بالثبور والهلاك، والمراد به: الحث والتحريضُ على الإيمان، لا حقيقة الهلاك، {آمِنْ} بالله وبالبعث {إِنَّ وعدَ الله} بالبعث والحساب {حَقٌّ} لا مرية فيه، وأضاف الوعد إليه- تعالى- تحقيقاً للحق، وتنبيهاً على خطئه، {فيقول} مكذّباً لهما: {ما هذا} الذي تسميانه وعْد اللّهِ {إلا أساطيرُ الأولين} أباطيلهم التي سطروها في كتبهم، من غير أن يكون له حقيقة.
{أولئك الذين حقَّ عليهم القولُ} وهو قوله تعالى لإبليس: {لأَمَّلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأعراف: 18] كما يُنبئ عنه قوله تعالى: {في أمم قد خلت مِن قبلهم من الجن والإنس} أي: في جملة أمم قد مضت، {إِنهم كانوا خاسرين} حيث ضيّعوا فطرتهم الأصلية، الجارية مجرى رؤوس أموالهم، باتباعهم الشيطان، وتقليداً بآبائهم الضالين.
{ولكلٍّ} من الفريقين المذكورين، الأبرار والفجار، {درجاتٌ مما عملوا} أي: منازل ومراتب من جزاء ما عملوا من الخير والشر، ويقال في جانب الجنة: درجات، وفي جانب النار: دركات، فغلب هنا جانب الخير.
قال الطيبي: ولكلٍّ من الجنسين المذكورين درجاتٌ، والظاهر أن أحد الجنسين ما دلّ عليه قوله: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُواْ} [الأحقاف: 13]، والآخر قوله: {والذي قال لوالديه أُف لكما} ثم غلب الدرجات على الدركات، لأنه لمّا ذكر الفريق الأول، ووصفَهم بثباتٍ في القول، واستقامةٍ في الفعْل، وعقَّب ذلك بذكر فريقِ الكافرين، ووصفهم بعقوق الوالدين، وبإنكارهم البعثَ، وجعل العقوقَ أصلاً في الاعتبار، وكرر في القِسم الأول الجزاء، وهو ذكر الجنة مراراً ثلاثاً، وأفْردَ ذكر النار، وأخّره، وذكرَ ما يجمعُهما، وهو قوله: {ولكلٍّ درجات} غلّب الدرجات على الدركات لذلك، وفيه ألا شيء أعظم من التوحيد والثبات عليه، وبر الوالدين والإحسان إليهما، ولا شيء أفحش من عقوق الوالدين، وإنكار الحشر، وفي إيقاع إنكار الحشر مقابلاً لإثبات التوحيد الدلالة على أن المنكر معطل مبطل لحكمة الله في إيجاد العالم. اهـ.
{ولنُوفيهم أعمالهم} وقرأ المكي والبصري بالغيب، أي: وليوفيهم الله جزاء أعمالهم، {وهم لا يُظلمون} بنقص ثواب الأولين، وزيادة عقاب الآخرين، واللام متعلقة بمحذوف، أي: وليوفيهم أعمالهم، ولا يظلمهم حقوقهم، فعل ما فعل من ترتيب الدرجات أو الدركات.
الإشارة: عقوق الأساتيذ أقبح من عقوق الوالدين، كما أن برهما أوكد؛ لأن الشيخ أخرجك من ظلمة الجهل إلى نور المعرفة بالله، والوالدان أخرجاك إلى دار التعب، مُعرض لأمرين، إما السلامة أو العطب، والمراد بالشيخ هنا شيخ التربية، لا شيخ التعليم، فلا يقدّم حقه على حق الوالدين، هذا ومَن يَسّر اللّهُ عليه الجمع بين بِر الوالدين والشيخ فهو كمال الكمال. وبالله التوفيق.